لم تكن أزمة عام 2008 التي رفعت أسعار الغذاء في ستة أشهر بنسبة تراوحت بين 50-80 % سوى مؤشر قرع ناقوس الخطر من جديد لينبه الى تدهور أوضاع الغذاء في العالم أجمع، وفي الدول الفقيرة والأكثر فقراً بشكل خاص. ذلك أن أزمة الغذاء تتدحرج مثل كرة الثلج منذ عقود من دون أن يحدث اختراق حقيقي لاحتوائها، ويطمئن الأفواه الجائعة على امتداد قارات العالم التي باتت تتزايد يوماُ بعد يوم.
معادلة مقلقة يعاني فيها عرض الغذاء من مشاكل حقيقية، ليس من السهل التغلب عليها، في حين يتزايد الطلب على الغذاء أفقياً بتزايد الأفواه التي تطلب الغذاء، وعمودياً بتحسن دخول الأفراد في دول كبرى نجحت في تطوير اقتصاداتها وفي مقدمتها الدول الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل.
عرض الغذاء بات مقيداً بفعل التغيرات المناخية التي زادت من الجفاف لتحول أراضي شاسعة الى صحارى، بعد ان ظلت قروناً مراعي تحافظ على الخصائص الإنتاجية للأرض، وتوفر مصدراً غنياً للأعلاف دعماً للثروة الحيوانية، كما ان الفيضانات الخارجة عن السيطرة عادت تتكرر أكثر من ذي قبل تاركة آثارها المدمرة على مساحات شاسعة من الأراضي والمزروعات.
الجديد في نقص عرض الغذاء، ما تفاجأ به العالم في أزمة الغذاء الأخيرة من دخول عوامل إضافية، بعضها كان في الحسبان، تمثل في ارتفاع أسعار النفط التي ضخمت أسعار معظم مدخلات الإنتاج الزراعي، وبعضها الآخر لم يكن بالحسبان خبأته لنا فوضى أسواق المال في الاقتصادات الغنية، التي فتحت الباب على مصراعيه للمضاربة على المواد الغذائية الأساسية رافعة أسعارها الى مستويات قياسية.
قد يمكن ضبط تقلبات أسعار النفط في حدود طبيعية، وقد ينجح تنظيم أسواق المال العالمية والرقابة عليها في الحد من آثار المضاربة على أسعار الغذاء، وقد يمكن التعامل مع مسألة دعم الزراعة حفاظاً على إنتاج الغذاء، لكنه من الصعب ضبط آثار التغيرات المناخية من جفاف وفيضانات وتصحر، أو وقف الزحف الحضري على الأراضي الزراعية، فلا يبقي لدينا من حلول لزيادة إنتاج الغذاء غير التطور العلمي تعلق عليه البشرية آمالها لزيادة الإنتاجية إلى مستويات تتفوق على مسببات الإخفاق في إنتاج الغذاء كافة.
من دون حل لنقص الغذاء، علينا انتظار نتائج كارثية بصورة حروب غذائية سياسية وعسكرية. فما تزال الدول المنتجة الكبيرة لا تتردد في استخدام الغذاء كسلاح لخدمة مصالحها الاستراتيجية السياسية والاقتصادية.
حروب الغذاء استخدمتها الدول المتقدمة من دون ان يرف لها جفن لتجويع شعوب وإجبارها على الإذعان لأهدافها السياسية والاقتصادية، حتى أصبح الغذاء بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً من الحرب الباردة، وبعد الحرب الباردة أيضاً، ففي عام 2003 اشترت الولايات المتحدة قمح أوروبا الشرقية من دون ان تكون بحاجة إليه.
مطلوب من دول العالم التي لا تنتج جزءاً معتبراً عن غذائها، وليس لديها من إنتاج آخر تقايض به الغذاء، إعلان حالة طوارئ غذائية، لأنه سوف يأتي وقت تفتقد فيه الميزة النسبية للدول قيمتها عندما تكون لديها الأموال ولا تجد من يبيعها الغذاء. ينطبق هذا على غالبية الدول العربية، في الوقت الذي لم تفلح فيه جهود التكامل الاقتصادي العربي في حل جزئي لمشكلتها. ولسوف يبقى الحال كذلك الى ان يتم كسر الجمود في حركة هذا التكامل في صورة أقلها، إقامة السوق العربية المشتركة التي تحرر انتقال الموارد وتوسع الأسواق وتقيم المشروعات المشتركة الكبرى. ما لم نفعل نكون حجزنا لأنفسنا موقعاً متقدماٌ على قائمة ضحايا حرب الغذاء المقبلة لا محالة.
المفضلات